فصل: الخمر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.الخمر:

213 - ذكرنا حدودًا أقيمت لحفظ النفس والمال، وحدودًا أقيمت لحفظ النسل وحفظه البيئة الاجتماعية، والآن نذكر ما يفسد العقل، وقد ترك الله سبحانه لنبيه تقدير العقوبة لها، وإن كانت الجريمة قريبة من جريمة القذف ومن جنسها، ولذلك فهم فقيه الصحابة علي - كرَّم الله وجهه - عقوبتها من عقوبة القذف، وقد جاءت النصوص القرآنية مشيرة إلى مضار الخمر، وأنها شراب مذموم، وجاءت بالنهي عنها، وأول آية نزلت مشيرة إلى أنها أمر غير حسن قوله تعالى:
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67].
وقد كان ذلك النص متضمنًا استهجانًا لها، وهو استهجان ببيان أنها شيء غير مستحسن في ذاته، فهو مقابل للأمر المستحسن. والمقابل للمستحسن لا يكون إلا مستهجنًا.
وكان ذلك أول تنبيه للعرب باستهجانها؛ لأنهم كانوا يألفونها في جاهليتهم ويتفاخرون بشربها كما يفعل أهل الجاهلية في هذا الزمان الذي نعيش فيه.
وهذه الآية نزلت في مكة، فلما كانت الهجرة، وأشرب المسلمون حب الإسلام أشار القرآن إلى ما يوجب تحريمها، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
وقلنا: إنَّ هذا النص السامي يوجب تحريمها؛ لأنَّ كل أمر غلبت مضاره على منافعه يوجب العقل أن يحرمه الإنسان على نفسه، لأنه ما من شيء إلا فيه نفع نسبي وضرر نسبي، والعبرة بما يغلب، ولكنه ليس تحريمًا صريحًا، ولذلك بعد هذا النص كان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا.
وإن النفس العربية كانت قد ألفت شربها وتعودته، فلا بُدَّ من تربية تخلع هذه العادة غير الحسنة، فجاء النصّ الآخر الكريم ليربِّي النفس على البعد عنها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].
وإنَّه لا يتصور إيمان من غير صلاة، فالصلاة أمر محتوم، وقد نهى عن أن يقربها وهو سكران، حتى يعلم ما يقول: والعلم بما يقول هو العلم ما ينبغي قوله، وما لا ينبغي، ونتائج القول، وتحري الصدق، وكل هذا لا يكون إلَّا من ذوي وعي كامل مدرك لحقائق الأمور وغاياتها، ولا يكون ذلك إلَّا إذا كان على بعد من الشرب بوقت طويل، وقال سبحانه وتعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ}، ولم يقل: لا تدخلوا في الصلاة؛ لأنَّ النهي عن المقاربة أبلغ من النهي عن الدخول.
وإذا كانت الصلوات خمسًا موزَّعة في النهار وزلفًا من الليل، فإنه لا بُدَّ أن يكون على صحوٍ كامل من قَبْل الفجر حتى لا يقرب صلاة الفجر وهو لا يعلم ما يقول، ولا بُدَّ أن يكون في صحو قبل الظهر، ولا بُدَّ أن يكون الصحو مستمرًّا إلى العصر، لقرب ما بينهما، ومثل ذلك المغرب والعشاء، وبذلك يذوق المسلم حلاوة البعد عنها، كما تعوَّدها من قبل، وهي شراب غير مريء.
فكان ذلك النص الكريم تربية للنفس المؤمنة، وعلاجًا لترك أمر مذموم ألفوه بأمر حسن عرفوه وذاقوا حلاوته.
ولم يجد عمر المدرك بنور الله في ذلك بيانًا شافيًّا؛ لأنه يغرب في نهي قاطع، لا تردد فيه.
ولقد نزل بعد ذلك الأمر الحاسم القاطع الناهي نهيًا لازمًا فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91].
وقد قال علماء البلاغة: إنَّ قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} هي أبلغ صيغ النهي، ويجدر بنا هنا أن ننبه إلى أمرين:
الأمر الأول: إنَّ أهل الجاهلية في هذا العصر يقولون: إنه لم يكن ثمَّة نص على النهي مثل قوله: (لا تشربوا)، وأن ذلك القول التافه كان غير جدير بالالتفات إليه، ولكن كثير ترداده، فحق علينا البيان فنقول:
إن النص الكريم شدَّد في النهي من وجوه كثيرة:
أولها: إنه قرن الخمر والميسر بالعبادة بالذبح على النصب، وتلك قريبة التحريم في ذاتها.
وثانيها: إنَّه وصفها بأنها من عمل الشيطان، وأنها رجس، أي: أمر قذر في ذاته، فهي ضارة، ولا تتقبلها النفس الفطرية، ومضارّها الجسمية معلومة لكل مدرك أريب.
وثالثها: إنَّه طالب باجتنابها، والاجتناب يقتضي البعد عنها، وعن مجالسها، وعن شاربيها، وذلك أبلغ من قولك: لا تشربها.
ورابعها: إنها تدفع إلى العداوة والبغضاء، وهما أمران مفسدان، مقوضان لبناء المجتمع.
وخامسها: إنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، والصلاة فرض لازم هو شعار الإسلام، والصدّ عنه أشد الأمور في الإسلام فهو حرام، فكل ما يؤدي إليه يكون حرامًا مثله؛ لأنَّ ما يفضي إلى الحرام يكون حرامًا.
وسادسها: قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، وقد قلنا أنَّها أبلغ صيغة في النهي عن الفعل.
الأمر الثاني الذي يجب التنبيه إليه: هو أنَّ الخمر كل ما يخامر العقل ويستره، ويمنعه من الإدراك المستقيم، سواء أكان النيئ من ماء العنب، أم كان المطبوخ منه، وسواء أكان من العنب أو البلح، أو غيرهما.
وعندما نزل ذلك النص القاطع في التحريم أراق الصحابة كل ما عندهم من دنان الخمر، ولم يكن فيها النيئ من ماء العنب، بل كانت كلها أنبذة.
فكل شراب من شأنه أن يسكر أو يؤدي إلى السكر يكون حرامًا، سواء أكان نبيذ العنب أو التفاح أو البلح أو البصل أو نيئ القصب، وسائر ما يخترعه الإنسان ليفسد عقله، وسواء أكان سائلًا أم كان جامدًا.
ولقد عرضنا لهذا الأمر لأنَّ بعض الفقهاء الكبار ظنَّ أن الخمر هي النيئ من ماء العنب إذا غلا فاشتدَّ وقذف بالزبد، فتعلق به الجاهلون، وحسبوا أنه يبيح الأنبذة، وهو يعلم أنَّها مسكرة، وطاروا بذلك القول؛ ليستبيحوا الخمر ويبيحوها، ونقول: إن ذلك الإمام الجليل قد أخطأ، وما كان عليهم أن يقلدوه في الرأي ليتمكنوا من شربها، بل كان عليهم أن يقلدوه في فعله، فقد قال رضي الله عنه وعفا عنه: (لو أغرقت في الفرات على أن تناول قطرة من الأنبذة ما تناولتها).
214 - وإنَّ القرآن إذ شدَّد في تحريم الخمر فإنه يعتبر ارتكابها جريمة تستحق العقاب، ولكن ليس في القرآن نصّ على عقوبة لها، وفيه نصّ على جريمة هي في كثير من الأحيان نتيجة لها، فإنَّ السكران لا يدري ما يقول، فينطق برفث القول وبالفسوق وهي جريمة القذف، ولقد قال علي بن أبي طالب في الارتباط بين الجريمتين، قال في عقوبة الشرب: (إذا شرب افترى، فيحد حد الافتراء، وهو حد القذف).
وقد ترك تقدير العقاب النص الصريح، أو بالعمل المبين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الشارب: «إذا شرب فاضربوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه».
وقد قيل له عليه الصلاة والسلام: إننا بأرض برد نستدفئ بالخمر، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تشربوها». فقال القائلون: إنهم لا يستطيعون، فقال عليه الصلاة والسلام: «فقاتلوهم».
وثانيها: أن يكون البغاة لهم قوة بعسكر مناوئة لحكومة الإمام.
وثالثها: أن يكون خروجهم لإقامة العدل لا لمجرد الخروج، والمحاربة والسعي في الأرض بالفساد، وبذلك يفترقون عن قطاع الطريق؛ لأنَّ قطاع الطريق يخرجون على الحاكم من غير تأويل للإفساد، وانتهاك حرمات العباد، وقد كانت عقوبة أهل البغي قتالهم من غير أن يكفروا ولا يعتبروا محاربين، بل يقاتلون حتى تفلَّ شوكتهم، وأنَّ على المؤمنين أن ينصروا الإمام العادل.
وهذا نص ما جاء في كتاب الله تعالى خاصًّا بذلك: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10].
ويستفاد من هذا النص الكريم أنه قبل القتال يجب العمل على رأب الصعدع بجمع القلوب المتفرقة، وتحري أسباب التقاتل بين الطائفتين، فإن أمكن إزالة أسباب الخصام فإنه بهذا يستقر السلام، وإن تبين الظلم من إحدى الطائفتين كانت الباغية، وحلّ قتالها، وكان القتال فرضًا كفائيًّا على المؤمنين، يعاونون العادل ويدفعون الآثم.
وتدل ثانيًا: على أنَّ القتال له غاية، وهو أن تعود إلى أمر الله تعالى ويستقيم أمرها على جادة العدل، فلا يؤسر منهم أسير، وبالتالي لا يسترق منهم، ولا تنهب أموالهم، ولا يجهز على جريحهم.
وتدل ثالثًا: على أنها إن عادت إلى صفوف المؤمنين تعامل بالعدل، ولا تعامل بالانتقام، فليست بينها وبين الحاكم خصومة، إنما بينهما الأخوة الجامعة، ولذلك عقب ذكر العقوبة بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
وقد ذكر حكم البغاة مجملًا، ولم يكن بغي في عصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنَّ الخروج على حكمه كفر، وليس ببغي يكون أساسه التأويل، فلا تأويل، وعمل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صريح.
وكذلك لم يحدث بغي في عهد أبي بكر، بل حصلت ردة وكفر، وكذلك لم يحصل بغي في عهد الفاروق، وفي عهد عثمان كان بغي، ولم تكن مقاومة للبغاة، حتى قتل الشهيد ذو النورين رضي الله عنه قتلة فاجرة، وفي عهد عليّ فارس الإسلام، والمجاهد الأول بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان البغي، بشروطه.
فقد خرج الخارجون على الإمام العادل علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه، وزعموا أنَّ لهم تأويلًا بدعواهم أنَّ الذين أيدوه هم قتلة عثمان.
وتصدَّى علي رضي الله عنه لمقاومتهم، بعد أن حاول رتق الفتق، وإصلاحه بالموعظة، حتى أجبروه على القتال، وخرجوا إليه في صفين.
ثم خرج الخوارج من بعد، وهم أشدّ البغاة تطرفًا في بغيهم، وكان القتال بين أهل العدل وأهل البغي، ويلاحظ أن عليًّا رضي الله عنه لم يجرد سيفه للقتال مهاجمًا إلَّا بعد أن قتل معاوية عمَّار بن ياسر، عندئذ تجرَّد علي وهجم بجنده؛ لأنه علم أنهم بغاة حقًّا؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»، ولا نريد أن نخوض فيما قاله الفقهاء، فإننا نذكر الحكم من غير تفصيل.